مجتمع

كيف حفرت طرابلس الليبية اسمها في نشيد «المارينز» الأمريكي؟

من التمرد على دفع الجزية إلى دفعها مضاعفة بأمر من والي طرابلس.. كيف مرّغ الليبيون أنف الولايات المتحدة الأمريكية؟

future حرب طرابلس الأولى (سرب العميد البحري إدوارد بريبل يشتبك مع الزوارق الحربية والتحصينات في طرابلس بعد ظهر يوم 3 أغسطس 1804)

من قاعات مونتيزوما (المكسيك) إلى شواطئ طرابلس

 نحن نخوض غمار معارك بلادنا في الجو والأرض والبحر

بهذه العبارة المباشرة تتغنى البحرية الأمريكية (المارينز) في واحدٍ من أهم أناشيدها الرسمية وأكثرهم شهرة. من الطبيعي أن يتغنّى الجنود بقدرتهم على خوض كل المعارك في مختلف الجبهات، لكن المُستغرب في ذلك المقطع هو وجود طرابلس الليبية، وسواحل ليبيا عموماً في النشيد الأمريكي. فليست هي أبعد نقطة في العالم كي يتباهى الأمريكيون بقدرتهم على الوصول إليها، وليست أقوى دولة كي يفتخروا بقدرتهم على الدخول معها في معركة إذا لزم الأمر.

ذلك الاستغراب يخفت قليلاً إذا عدنا بالزمن للخلف لنعرف ما علاقة طرابلس بالبحرية الأمريكية. ولكنه سيعود مُجدداً حينما ندرك أن البحرية الأمريكية تؤرخ بهذه الكلمات لهزيمة نكراء تعرضت لها من قبل البحرية الليبية؛ حيث خسرت البحرية الأمريكية أهم وأكبر فرقاطة بحرية كانت تملكها في ذلك الوقت.

شهد عام 1801 اندلاع حرب شرسة أطرافها هم الولايات المتحدة والسويد ومملكة صقلية، ضد المملكة الليبية المدعومة من تونس والجزائر، كونهما تابعتين للإمبراطورية العثمانية آنذاك، ومدعومة أيضاً من المغرب، كمملكة مستقلة.

إرهاصات تلك الحرب بدأت مبكراً عن لحظة اندلاعها الفعلية؛ فقد كان بحّارة شمال أفريقيا نشيطين في مياه البحر الأبيض المتوسط منذ القرن الـ17. وباعتبارهم الأقوى بحرياً فكانوا يحمون تلك السفن من هجمات القراصنة في مقابل مبالغ تدفعها الدول سنوياً. من بين تلك الدول كانت بريطانيا والسويد وغيرها.

وبعد أن نالت الولايات المتحدة استقلالها عن بريطانيا، بدأ البحارة يهاجمون السفن الأمريكية، فهي لم تعد تحظى بحماية التاج البريطاني. واستطاع البحّارة الطرابلسيون الاستيلاء على ما يقارب 11 سفينة أمريكية، واقتادوها إلى السواحل الجزائرية التابعة آنذاك اسمياً للإمبراطورية العثمانية.

الولايات المتحدة تطلب حماية طرابلس

قام جورج واشنطن أول رئيس أمريكي بتوقيع اتفاقية مع الوالي العثماني، تدفع بموجبها الإدارة الأمريكية 640 ألف دولار ذهبي إلى السلطان العثماني، في مقابل الإفراج عن السفن المحتجزة. ويدفع الأمريكيون مبلغاً سنوياً في مقابل أن تكون السفن الخاصة بهم في حماية بحّارة شمال أفريقيا في البحر الأبيض المتوسط وفي المحيط الأطلسي.

مع اقتراب حلول عام 1800، كانت الإدارة الأمريكية قد دفعت ما يُقارب 1.25 مليون دولار كجزية، وهذا الرقم كان يُعادل خُمس الميزانية الأمريكية كاملة في تلك الحقبة، مما شكّل عبئاً ثقيلاً على الحكومة الأمريكية.

السياسيون تدخلوا وطالبوا بالامتناع عن دفع تلك الجزية، وإنفاقها في بناء قوة بحرية تجابه الخطر الذي تمثله جيوش المملكة الليبية. وافقت الإدارة الأمريكية على هذه الخطوة وقررت الامتناع عن دفع تلك الضريبة إلى ولايتي طرابلس والجزائر. فاستدعى يوسف باشا القرمانلي، والي طرابلس آنذاك السفير الأمريكي وطرده من طرابس. كما قام يوسف باشا بحرق العلم الأمريكي الموجود على سفارتهم. فاقتنص توماس جيفرسون الرئيس الأمريكي حينها، تلك اللحظة لإعلان الحرب على طرابلس، وقرّر إرسال فخر البحرية الأمريكية «المدمرة فيلادلفيا».

استغرق بناء تلك السفينة [فيلادلفيا] عامين، وتولى الإشراف عليها كبار مهندسي البحرية الأمريكية، ووصل وزنها عند الانتهاء منها إلى 1250 طناً، بطول 40 متراً، وعرض 11 متراً، وتحمل على متنها 44 مدفعاً تستطيع جميعاً الاشتباك مع العدو في نفس الوقت.

حرب طرابلس الأولى

في 10 مايو عام 1801 بدأت الحرب المعروفة لدى المؤرخين العرب باسم «حرب طرابلس»، ويُعرِّفها المؤرخون الأوروبيون باسم «حرب البربر الأولى والثانية». وكانت تلك هي أول حرب تخوضها الولايات المتحدة الأمريكية خارج أراضيها.

بدأت مجموعة بحرية أمريكية تتكون من أربع سفن بقيادة ريتشارد ديل، وهو من قدامى المحاربين، في التحرك نحو طرابلس. في الأشهر الأولى للعمليات لم يكن هناك صدامات مباشرة حقيقية بين الجيشين. كان كل طرف يحاول التكهن بقدرات وإمكانيات الطرف الآخر. وكان الحادث الفارق في تلك الأشهر هو استيلاء فرقاطة أمريكية تُدعى «إنتربرايز» على السفينة طرابلس التابعة لبحرية يوسف باشا.

لم تُعجب الإدارة الأمريكية من طريقة قيادة المعركة فأرسل الرئيس الأمريكي قائداً جديداً وهو إدوارد بريبل. أراد بريبل أن يُسرِّع وتيرة الأحداث فوقع في فخ تسرّعه؛ حيث استطاع جنود طرابلس بقيادة الريس زريق السيطرة على المدمرة «فيلادلفيا» عبر استدراجها في مُطاردة مخططة مسبقاً نحو مياه ضحلة، وأسروا أكثر من 300 بحّار كانوا على متنها.

السردية الأمريكية تقول إن «فيلادلفيا» جنحت فحسب أثناء قيامها بدورية بحرية قرب مياه طرابلس. لكن الثابت عند الطرفين: أن الأمريكيين وحلفاءهم أعلنوا الاستسلام والهزيمة ووقوع أكثر من 300 بحار في الأسر. لكن لم يستطع الأمريكيون استعادة السفينة «فيلادلفيا» مرة أخرى. وظلّوا شهوراً يحاولون إعادة الاستيلاء عليها، وتحريكها إلى الولايات المتحدة، لكن فشلت كل تلك المناورات في النهاية.

لذلك، أرسلت الإدارة الأمريكية جواسيس استطاعوا دخول السفينة وإحراقها تماماً. كانت الإدارة الأمريكية تخاف أن يستفيد الطرابلسيون من تلك السفينة، وأن يستخدموها في حروبهم لاحقاً، فتصبح بذلك الهزيمة الأمريكية أشد إهانة. وتؤرخ الإدارة الأمريكية بتلك الحادثة [إحراق المدمرة فيلادلفيا] أنها لحظة الولادة الحقيقية لمفهوم «المارينز»، أو مشاة البحرية الأمريكية.

هزيمة ثانية ومعاهدة مذلة

أُعجب الأمريكيون بفكرة التسلل إلى ميناء طرابلس، وقرروا استخدام السفينة طرابلس التابعة لبحرية يوسف باشا، التي أسروها قبل فترة، وأعادوا تسميتها «يو إس إس إنتربد»؛ حيث حمّلوها بمواد حارقة وصعد على متنها 13 بحّاراً. حاولت السفينة التسلل إلى الميناء، ثم إشعال النار في السفينة ذاتها كي تحرق سفن الباشا الحربية الراسية في الميناء. لكن الخطة فشلت وأصابت قذيفة مدفعية السفينة الأمريكية، ما أدى إلى انفجارها ومقتل جميع بحّارتها.

بعد الجولة الأولى في حرب طرابلس التي امتدت من عام 1801 حتى عام 1805، أدرك الأمريكيون أن خوضهم حرباً بعيدة عن ديارهم أمرٌ صعب. فلجئوا إلى حرب من نوع آخر، الخيانة؛ حيث قاموا باستمالة شقيق والي طرابلس بالمال أحمد باشا القرمانلي، ووعدوه بتنصيبه على ولاية طرابلس، إذا تحالف معهم ضد أخيه.

بعد أن اطمأن الأمريكيون إلى دعم أحمد باشا القرمانلي شقيق يوسف باشا، بدأوا حملتهم الجديدة على طرابلس. وفي 16 يونيو 1815 بدأت حرب طرابلس الثانية. ويُطلق عليها المؤرخون العرب هذه المرة «حرب الجزائر»، أو «الحرب الجزائرية».

في تلك الحرب قام الأمريكيون بمهاجمة كاسحة لمدينة درنة شرقي ليبيا. لكن خلال ثلاثة أيام كان الطرابلسيون قد استعادوا أرضهم مرة أخرى؛ فقد أتاهم المدد من تونس والجزائر والمغرب. لتنتهي الجولة الثانية أيضاً بنفس ما انتهت به الجولة الأولى. هزيمة نكراء جديدة للولايات المتحدة. فأقل المصادر مبالغة تقول إنه في تلك المعركة قُتل أكثر من 1800 جندي أمريكي، ووقع في الأسر أكثر من 700 آخرين.

لم يكن أمام الولايات المتحدة مفر من التوقيع على الشروط التي يحددها الطرابلسيون أياً كانت. وقد قرر والي طرابلس أن يدفع الأمريكيون الجزية مضاعفة بعد ذلك، كما يقومون بدفع تعويضات لدول الشمال الأفريقي التي تضررت من الهجمات الأمريكية.

توالت سنوات من التطوير والبناء على البحرية الأمريكية بعد تلك المعركة. استطاعت فيها البحرية الأمريكية وأساطيلها أن تكون هي القوة الضاربة في مختلف بقاع العالم. وأن يُعد تحرك فرقاطة أمريكية أو حاملة طائرات بمثابة إنذار شديد اللهجة لأي جهة، وقوة رادعة لأي تحرك مستقبلي من أي طرف، لكن رغم ذلك ظلّت معركة طرابلس حاضرة في تعريف البحرية الأمريكية لنفسها، وتذكيراً لها بالثمن الذي يدفعه المهزوم.

# حرب طرابلس # ليبيا # سياسة # الولايات المتحدة الأمريكية

جولات بلينكن في المنطقة ولعبة سياسة الهندسة
المعادن الحرجة: عودة إلى ساحة الصراع في ظل هيمنة التنين
بايدن ينسحب وكامالا هاريس في مواجهة ترامب

مجتمع